على مدار الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، كان الابتكار الثوري هو الملاذ الأخير أمام الشركات التي تعمل في قطاعات متنوعة، بدايةً من الحديد والصُلب، مرورًا بالاتصالات، ثمّ وصولاً إلى قطاع الترفيه. والآن – وربما أكثر من أي وقت مضى – يعد الابتكار الثوري ضرورة واقعية وغاية في الأهمية بالنسبة إلى الشركات الطامحة في الازدهار في خضم موجة الاضطرابات التي نواجهها؛ ففي حين أن الجائحة قد تمخّضت عن الكثير من التحديات، إلا أنّها قد أوجدت أيضًا مجموعة من الفرص، لا سيما في قطاع التكنولوجيا والتقنيات الرقمية. كذلك، تحوّلت العديد من المجتمعات حول العالم إلى نظام العمل عن بُعد والتعليم المنزلي، بينما اضطرت الشركات في جميع القطاعات إلى الابتكار والتحوّل رقميًا بشكل غير مسبوق حرصًا منها على الحفاظ على استمراريتها.
تشير أحدث التقارير الصادرة إلى أنّ كلاً من مدينة الشارقة الإماراتية والبحرين تقدمان أفضل منظومات العمل في منطقة الشرق الأوسط للشركات الناشئة وتأسيس الشركات في مجالات التكنولوجيا المالية (FinTech)، وتكنولوجيا التعليم (EdTech)، والوسائط الرقمية. ووفقًا لمؤسسة “ستارت أب جينوم” للاستشارات والأبحاث السياسية، صُنّفت هاتان البقعتان ضمن أفضل وأسرع خمسة منظومات نموًا للشركات الناشئة في مرحلة التفعيل على مستوى العالم، وهو ما يعني أنه يمكن للمؤسسين “الاستفادة من مواطن القوة الاقتصادية المحلية، وتطوير برامج مركّزة” لتسريع وتيرة نمو المنظومة، وتطوير جوانب للنجاح تؤدي إلى مخارج كبيرة.
يُشيد تقرير منظومة الشركات الناشئة العالمية، خلال تتبعه لأكثر من 1.27 مليون شركة من أكثر من 250 منظومة عمل، بالدعم المقدم من هاتين المنظومتين للشركات الناشئة في أعقاب جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19).
تشتمل الأسطر التالية على نظرة فاحصة على أهم خمسة قطاعات يحدد فيها الشرق الأوسط مجموعة من المعايير المبتكرة والرائدة على مستوى العالم.
الذكاء الاصطناعي
في أعقاب الثورة الصناعية الرابعة، بدأت الحكومات والشركات في جميع أنحاء الشرق الأوسط في فهم التحوّل العالمي نحو الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة؛ إذ باتت تواجه صعوبة في الاختيار بين التحول إلى جزء من الثورة التكنولوجية أو التخلّف عن الركب. وعندما ننظر إلى التأثير الاقتصادي الواقع على المنطقة، نجد أنّ التخلف عن الركب لا يمكن اعتباره خيارًا يُعتد به؛ حيث تشير التقارير إلى أنّه من المتوقع أنّ يصل نصيب الشرق الأوسط من إجمالي الميزات العالمية للذكاء الاصطناعي إلى 2% في عام 2030، أي ما يُعادل 320 مليار دولار.
بالقيمة المطلقة، من المتوقع أن تستحوذ المملكة العربية السعودية على نصيب الأسد من المكاسب؛ حيث من المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد بما يزيد عن 135.2 مليار دولار في عام 2030، أي ما يعادل 12.4% من الناتج المحلي الإجمالي. أما من حيث القيمة النسبية، من المتوقع أن تشهد دولة الإمارات العربية المتحدة الأثر الأكبر، بما يقارب 14% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2030.
لقد وضعت دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر على وجه الخصوص التزامًا قويًا تجاه تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وتنفيذها؛ حيث تكثف الشركات في هذه الأجزاء من المنطقة استثماراتها في التقنيات الجديدة، الأمر الذي باتت الحكومات تعززه وتقويه باعتبارها المستهلك الأوّل لهذه التقنيات.
من الضروري أيضًا ملاحظة أنه في حين تؤثر التقلبات في أسعار النفط سلبًا على الآفاق الاقتصادية للمنطقة، إلا أنّها تدفع الحكومات نحو البحث عن مصادر بديلة للإيرادات والنمو. ومن الممكن أن يؤدي تطوير القطاعات غير النفطية من خلال الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى تحقيق فوائد للمنطقة طيلة أعوام قادمة.
الوسائط الرقمية
لا تعدّ التقنيات الرقمية توجّها عابرًا، بل إنها تمثّل ثورة تندلع الآن، وتزداد سرعتها يومًا بعد يوم؛ ففي الشرق الأوسط وحول العالم، تعمل التقنيات الرقمية على إشعال فتيل الابتكار الثوري في كل جانب من جوانب قطاعات الأعمال والحكومة وحياة الأفراد.
تحظى قصة التحوّل الرقمي في الشرق الأوسط بالعديد من الجوانب المهمة حتى الآن. وفي واقع الأمر، تتوجه أنظار المنطقة إلى العصر الرقمي – لا سيما بين مختلف قطاعات المستهلكين؛ حيث تُظهر البيانات أن ما بين 70% إلى 80% من السكان في دولة الإمارات العربية المتحدة يحملون حواسيب فائقة في جيوبهم، مما يضع الدولة ضمن مصاف أعلى الدول من حيث انتشار الهواتف الذكية عالميًا. وقياسًا على ذلك، سجلت البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة نسبًا أعلى، مقارنةً بالولايات المتحدة (100% للأولى في مقابل 80% للثانية).
ينتشر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا على نطاق واسع؛ إذ تحتل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المرتبة الثانية في العالم من خلال العديد من مرات مشاهدة مقاطع الفيديو يوميًا على موقع (YouTube) بما يزيد عن 310 مليون مشاهدة.
تعدّ منطقة الشرق الأوسط المستهلك الأسرع نموًا لمقاطع الفيديو على موقع التواصل الاجتماعي (Facebook)؛ حيث يبلغ معدل استهلاك مقاطع الفيديو المضمّنة ضعف المتوسط العالمي. وبالنظر إلى التركيبة السكانية في المنطقة (50% من السكان تقل أعمارهم عن 24 عامًا)، سيعمل الشباب البارعون في التكنولوجيا المولعون بها في الشرق الأوسط على زيادة معدّل الاعتماد الرقمي على مدار الأعوام المقبلة. وإضافةً إلى انتشار الهواتف ذات الميزات الأفضل واستهلاك الوسائط، تشير زيادة استخدام الأجهزة المحمولة وتعدد استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي إلى طرق جديدة للوصول إلى جيل جديد وإلهامه وتثقيفه خلال القرن الحادي والعشرين.
تكنولوجيا التعليم
بالنسبة إلى الأجيال الحالية والمستقبلية للطلاب من شتى الأعمار، لن تكون عملية التعلم كسابق عهدها مرة أخرى؛ حيث اندلعت ثورة في مجال التعليم، وأصبح التعلّم المختلط قائمًا، ومصممًا ليبقى ويستمر. ومع انتقال المعلمين إلى نمط جديد من التدريس، أي من التعلم عن بُعد إلى التعليم المختلط، تدفع التوجّهات السائدة المنظومة التعليمية بأكملها نحو إعادة النظر في الطريقة التي ننتهجها في عملية التدريس.
وفقًا لما ذكرته اليونيسف، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ظلّ 110 ملايين طفل في سن الدراسة في منازلهم خلال هذا الفصل الدراسي نتيجةً لإغلاق المدارس؛ حيث أدت الجائحة إلى زيادة هائلة على الصعيد الإقليمي في الشركات الناشئة العاملة في مجال تكنولوجيا التعليم لرأب تلك الفجوة، كبديل عن المواقع التقليدية وأماكن العمل. وفي حين كان التركيز التقليدي لتكنولوجيا التعليم منصبًّا على توفير التدريس الخاص والمحتوى ودعم إدارة المدارس، أصبحت هناك فرصة الآن لدمجها تمامًا ضمن المناهج الدراسية.
الرياضة الإلكترونية
أدّت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) إلى إلغاء الأحداث الرياضية الكبرى، بدايةً من بطولة ويمبلدون ووصولاً إلى الأولمبيات. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، أعلنت الهيئة العامة للرياضة تعليق جميع الأنشطة في جميع الألعاب الرياضية، بما في ذلك البطولات والمسابقات. وبالمثل، في السادس من شهر مارس، أعلنت وزارة الرياضة السعودية تعليق حضور الجمهور في جميع الأحداث والفعاليات الرياضية. وقد تحوّلت أنظار العديد من عشّاق الرياضة إلى الرياضة الإلكترونية، حيث تتنافس جميع مسابقات الدوري للرياضات الإلكترونية على تسريع قدرتها على استضافة المباريات عبر الإنترنت فقط. وقد وُضعت هياكل البثّ خلال ليلة واحدة تقريبًا، ولاحظت العلامات التجارية الكبرى هذه التغييرات، وحوّلت إعلاناتها إلى هذه الساحة الجديدة. وفي حين أنّ الرياضة الإلكترونية كانت بالفعل تشكّل موضع اهتمام لدى الرعاة الرئيسيين، من المرجح أن تؤدي زيادة أعداد المشاهدين واستهلاك المحتوى عبر الإنترنت إلى إثارة الاهتمام الدائم بهذه المنظومة الآخذة في النمو والازدهار حتى بعد انتهاء الجائحة.
التكنولوجيا المالية
بدأت اللوائح التنظيمية للتكنولوجيا المالية في الظهور في منطقة الخليج العربي في عام 2017. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المنطقة مرتعًا لنشاط التكنولوجيا المالية وتطوّر اللوائح التنظيمية، لا سيما مع تنافس العديد من الأماكن لترسيخ مكانتها كمركز للتكنولوجيا المالية في المنطقة.
استحوذت كلٌ من البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة على السواد الأعظم من استثمارات رأس المال الاستثماري في المنطقة، وأخذت السياسة المتعلقة بالتكنولوجيا المالية والنشاط التنظيمي في النمو خلال العامين الماضيين. وتتمثل أهم ثلاثة عوامل لظهور البحرين والإمارات العربية المتحدة كمراكز للتكنولوجيا المالية في المنطقة في اشتمالهما على: (1) منظومة مواتية للبدائل المالية الجديدة، و(2) منظومة تكون فيها الحكومة في قلب الجهود الرامية إلى دفع عجلة الابتكار كجزء من عملية تحوّل أكبر، و(3) منظومة ذات اهتمام خاص باستقطاب المواهب الدولية كوسيلة مُلهمة لتشجيع الابتكار على الصعيد المحلي. وقد تحلّت البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة بالريادة في المنطقة من حيث تطوير المنظومات الداعمة لتطوير التكنولوجيا المالية.
الخلاصة
من خلال النظر في كل ما سبق معًا، يتضح أنّ سهم التغلغل الرقمي متجهٌ نحو الصعود، بل ومستمر في صعوده في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط. وفي حين يبدو أن كل ما يتعلق بتفشي جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) يحمل في طيّاته صورة قاتمة، إلا أنه رُبّ ضارة نافعة؛ فمع احتمال أن يستمر انتشار تلك الجائحة لفترة من الوقت، قد يؤدي التحوّل إلى العمل عن بُعد والتعليم المنزلي إلى تغييرات دائمة فور انقشاع تلك الغمّة. كما قد نميل إلى الحدّ من رحلات العمل إذا نجحت إقامة الاجتماعات الافتراضية خلال تلك الأزمة؛ إذ ستؤدي هذه التحوّلات السلوكية إلى توفير تكاليف تأسيس الأعمال، وكذلك إلى أثر إيجابي واضح على بيئتنا.
تواصل مع فريقنا المختص في المنطقة الحرة لمدينة الشارقة للنشر لمعرفة المزيد عن تأسيس الشركات في الإمارات.